أخلاقيات البحث العلمي



لا شك أن المعايير الأخلاقية المهنية[(*)] مهمة في كل المجالات في كافة مناحي الحياة إلا أن للبحث العلمي أهمية خاصة لخصوصية العلاقة المهنية بين الباحث وغيره من الباحثين من جهة، وعلاقته بالمجتمع الذي تهدف الجامعة إلى خدمته عن طريق البحث العلمي.
   
تعلو درجة الأهمية للباحث الأكاديمي الذي يتوقع منه الالتزام بمستوى عال من المعايير العلمية: لذا يصبح الإخفاق بالالتزام بالقواعد الأخلاقية أمرا مخالفا ومضادا لقيم وروح المؤسسة العلمية مما يؤثر سلبا على المجتمع.

أخلاقيات المهنة العامة والخاصة هي السلوك الحسن

تستمد أخلاقيات المهنة من: الدين، قيم الفرد واتجاهاته، الوثائق واللوائح من الأجسام المهنية.

هدف البحث:

إظهار الأهمية الخاصة للأمانة العلمية كمستودع للمعايير الأخلاقية للبحث العلمي.

فروض البحث:

الفرض الأول: الاكتفاء بتوافر الصفات العلمية الأكاديمية أم ضرورة توافر صفات أخرى غير ذات صلة مباشرة (صفات خلقية).

الفرض الثاني: أخلاقيات البحث العلمي مسئولية الباحث فحسب؟ أم مسئولية مشتركة بينه وجهات أخرى؟.

تقسيم الورقة:

تم تقسيم الورقة البحثية على ضوء هدف وفروض البحث إلى ثلاث نقاط وخاتمة:

الأمانة العلمية من لوازم الإيمان ومن المطلوبات المهنية.
أخلاقيات البحث العلمي.
حقوق وضمانات الباحث.
خاتمة (نتائج وتوصيات).

الأمانة العلمية من لوازم الإيمان ومن المطلوبات المهنية:
يعد البحث العلمي من أدوات المعرفة وهو الوسيلة الأولى لتكوين ملكة التحليل والتجزئة من المعلومات المتحصلة والمكتسبة للإنسان ومن ثم الاستنتاج والابتكار.

هنالك عدة تعريفات اصطلاحية للبحث العلمي إلا أن جميعها تشترك بأنه وسيلة للدراسة يمكن بواسطته الوصول إلى حل مشكلة محددة، وذلك عن طريق التقصي الشامل والدقيق لجميع الشواهد والأدلة التي يمكن التحقق منها ([1]).

عرفت البشرية أنواعا متعددة من الكتابة في مراحل تطورها، حيث مارس العرب أشكالا منها كالعهود والمواثيق والإملاء والرسائل وغيرها، بالإضافة إلى كتابة الشعر، أما اهتمام الإسلام بالكتابة فظاهرة لا تحتاج إلى تفصيل.

ما يهمنا والمقام مقام حديث عن أخلاقيات البحث العلمي الإشارة إلى عملية نسخ الكتب والمؤلفات التي أصبحت من قبل "النساخ" التي أصبحت عملية ملازمة لانتشار الكتابة والتأليف وأصبح النساخ فئة مؤثرة (الوراقون) طبقة لها شأن تؤثر في نشر العلم وتؤثر في حق المؤلف الباحث العالم والمبتكر حيث يذكر أن أحدهم قال "آفة العلم خيانة الوراقين" ([2]).

صحيح لم يتجه الصحابة والتابعون في صدر الإسلام إلى التأليف وذلك لقرب عهدهم لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوفر الثقاة من الصحابة عليهم رضوان الله وكونهم كانوا يعتمدون الحفظ وكان الحافظ منهم إماما.

بدأ التدوين والاهتمام بالكتابة والتأليف شيئا فشيئا إلى أن وصل إلى الحرص بل أشد الحرص على صون حق المؤلف وذلك بوضع القواعد والضوابط التي تحكم وتحفظ الملكية من التعدي عليها مما زاد أهمية البحث والتأليف والنشر وجعله شرطا أساسيا للإبداع الذهني وتصبح الأمانة العلمية هي الحارثة للبحث ولازمة من لوازم الإيمان، لأنه لا إيمان لمن لا أمانة له. ومن أمانة العلم: أن ينسب القول (اقتباس) لمن قاله والفكرة لصاحبها، وكذا من الأمانة أن يقف الباحث عندما يعلم وأن يقول أنه لا يعلم إذا لم يكن يعلم فليس في العلم خجل ولا كبرياء، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة حينما سئل أمام الملأ من الناس عن الساعة (أي يوم القيامة) فقال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" ([3]). وعلى هذه السنة يتوافر التواضع وهي سمة من سمات العلماء لابد أن تتحقق في الباحث، لأن المرء إذا علم شيئا غابت عنه أشياء والعلم أكبر من أن يحاط به وكفى بهذا الاعتراف علما ([4]).

وبهذا ينتسب الجهل لصاحبه لا للآخرين يشعر الباحث بالعزة تلازمه بقية حياته العلمية والمهنية وسط زملائه وهي إحساس لا شك أنه دافع للبحث والثقة وهي من لوازم وأخلاقا العلماء يدخله الله في زمرة من اختصهم بخصائص المؤمنين (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ([5]).

بهذه اللوازم يقبل الباحث على بحثه بنية وطهارة نفس لقبول العلم مبتكرا غير مقلد بصبر ومثابرة، بحث قائمة أصوله على مرجعية ومنهجية سليمة ترتكز على: تحليل الماضي وتعليل الحاضر واستشراف المستقبل ([6]).

أما المطلوب المهني فهو حاضرا لكون البحث العلمي مهنة كالمهن المناظرة كالطب والهندسة والمحاماة ...إلخ رغم بعض الفوارق، إذ في ممارسة أي من هذه المهن نحتاج إلى مهارة فكرية أو تقنية قد تكتسب عن طريق الدراسة أو الامتحان أو التدريب وذلك وفق لائحة قواعد سلوك تتجاوز شرائط القانون العام الذي ينظم العمل داخل مؤسسة البحث يلاحظ أن إجراءات البحث العلمي داخل الجامعات تفتقد هذه اللائحة وبالتالي تفتقد تطبيق جزاءات خاصة بالسلوك وهذا لا يمنع بالطبع وجود قواعد ومعايير للجودة وجدارة البحوث، ولكن ليس على يد مجلس مهني كما للأطباء الأمر الذي يدعو بالمناداة بوضع لائحة للسلوك على غرار تلك المهن دون الاكتفاء بالقواعد العامة التي تهتم بصفة أساسية بثمرة البحوث كدرجات في الترقية من قبل اللجان العلمية. ورغم توافر ذات مطلوبات المهنة في البحث العلمي بل بدرجة أعلى خاصة في مجال الدراسة والامتحان إلا أن القصور بين في بعض الجوانب كالالتزام المهني في نقل خبرات ومهارات الأستاذ أو المشرف إلى من يقوم بالإشراف عليهم وتدريبهم ليكونوا باحثين، وان وجد يكون بغير لوائح موحدة للسلوك إنما بقناعات شخصية أو أعراف وتقاليد جامعية متباينة مما قد يجعل المحاسبة السلوكية غائبة مكتفية في الغالب بالنواحي المتعلقة بالترقية كإبعاد البحوث من اعتماد، دون التدخل فيما يتصل بآداب الممارسة المهنية بتوقيع الجزاءات على من يخالف تلك الآداب والقواعد الأخلاقية للبحث العلمي.

هذه الحقيقة تدعو إلى ضرورة إيجاد لائحة لقواعد السلوك مقرونة مع قواعد إجرائية موحدة من قبل عمادة الدراسات العليا، ولا بأس أن تكون التقاليد والأعراف الجامعية إحدى مصادر هذه القواعد بدلا أن تكون هي الأساس إن وجدت أصلا إذ يلاحظ مدى ندرة وضعف هذه القواعد داخل جامعاتنا اليوم وذلك لعدم توافر تفرغ (الاحتباس) للأستاذ للجامعة كما كان يحدث في السابق داخل كليته بل في السكن المشترك مما يمكن المتدرب في كسب التقاليد الجامعية.

يضاف إلى غياب هذه القواعد وجود صعوبة في إيجاد مجلس مهني في كل جامعة إذ لا تغني اللجان العلمية في الجامعة عن المجلس بكون أنها تعد امتدادا لإدارة الجامعة وتحكم بقوانينها التي لا تستوعب قطعا الكثير من القواعد الأخلاقية وهي الدائرة الأكبر التي تسع كافة المخالفات السلوكية التي تتعدى في أغلب الأحيان مخالفة نصوص القوانين واللوائح المنظمة للمؤسسة.

أخلاقيات البحث العلمي:

يقال أن الذوق العلمي موهبة يمنحها الله لأشخاص أو باحثين يتميزون به عن غيرهم ([7]) إلا أنه يمكن تنمية هذا الذوق بالتدريب على تقدير العلم والبحث العلمي بالتدرج في تلقي العلم، والاتصاف بصفات علمية أكاديمية في حدها الأدنى بأن تنسب الآراء إلى قائليها الأصليين، ومن ثم إعمال الإبداع الذهني في البحث وفي تمحيص الآراء المنقولة من مصادر متعددة بالرجوع إلى المصدر الأصلي.

ولا شك أن خطأ الناقل يتبع شيوعه لدى الناقلين اللاحقين وهو بالطبع سهل اكتشافه، مما يعد سرقة لجهد الآخرين وهي تكون بأساليب مختلفة على الصور التالية:

اقتباس معلومة دون الإشارة للمرجع الذي وردت فيه.
الإشارة إلى مراجع وهمية.
الإشارة إلى مراجع خاطئة دون التأكد منها.
وجدير بالذكر بأن عدم "الأمانة العلمية" قد تتمثل في غير حالات السرقة العلمية وهي أشد خطرا بكونها تحقق عدم النزاهة وذلك 
عند إجراء البحث وذلك بعدم عرض البحث عرضا موضوعيا كتشويه أو طمس بعض معالمه نتيجة عدم الحياد لذا على الباحث أن يعرض آراء الغير:
عرضا أخلاقيا مهذبا دون الهجوم على الآخرين والسخرية من قيمة آرائهم.
عرض جميع آراء الفقهاء عرضا شاملا دون تمييز لا ليوافق فروض بعضه فقط.
عرض الآراء كاملة غير منقوصة.
الصورة الثانية:

عند إجازة البحث

مثال:

الإشادة والمدح المتعمد كتابة أو شفاهة للمشرف أو الممتحن.
محاولة التأثير على الممتحنين بشتى الوسائل.
التدخل في اختيار الممتحن.


لا نحتاج للقول بأن هذه الصور ليست بالهينة وذلك بالنظر إلى خطورة البحث العلمي بكونه عماد تنمية الأمم ولا سيما ببلادنا وغيرها من البلاد النامية التي تقل فيها الفاعلية الإنتاجية، هذه من جهة ومن جهة أخرى، هي ميزة للباحث إذ يصبح سببا في نقلة بحياته المهنية يترقى به على زملائه إذا التأثير يتعدى الباحث إلى المجتمع والدولة.

ونضيف أن عدم النزاهة أو الأمانة العلمية قد يكون سببه آخرين كالممول وسيما في البحوث الميدانية وذلك في التأثير على إجراء البحث ونتائجه بصورة تؤثر على استقلالية البحث الأمر الذي يتطلب سياجا من الأخلاق في جمع المعلومات (والأسرار) والوصول إلى المصادر ([8]).

تقف بجانب هذه الصفات الخلقية صفات علمية أكاديمية - لا نقف عندها بكونها خارج حدود البحث - كالرغبة في القيام بالبحث العلمي بصفة عامة، سعة الاطلاع والإحاطة والقدرة على النقد والتحليل، والموضوعية، وعدم التعميم أيضا وعدم التلاعب بالنتائج من أجل أن توافق فروض البحث، الدقة والتنظيم، العناية بالأسلوب العلمي واللغوي عدم تكرار الأفكار المرجعية الواضحة، والمنهجية السليمة.

إذا هي مسئولية أخلاقية ملقاة على عاتق الباحث عند قيامه بالبحث العلمي ومسئولية مهنية لواجبات محددة للباحث الجاد، وبذات القدر مسئولية على جهات كثيرة تجاه الباحث تضمن له حقوق وضمانات تحقق حرية البحث.

حقوق وضمانات الباحث:

لا بد من حقوق وضمانات للباحث حتى يسأل حالئذ عن مسئوليته الأخلاقية من هذه الحقوق والضمانات:

تلقي الرعاية والإشراف العلمي من مشرفه وأساتذته في القسم للاستفادة من خبرات ومهارات هؤلاء والتدريب وكذا آداب المهنة وذلك بخطة واضحة ولائحة محددة (تقرير المتابعة) حين البحث وبعد الحصول على الدرجة.
حرية الفكر والتفكير.
المساهمة في دعم البحث من الجامعة والدولة.
توفير مصادر تمويل.
المساهمة في نشر البحث.
النتائج والتوصيات:
أولا: النتائج:

تعلو درجة أهمية القواعد الأخلاقية والسمات الشخصية للباحث الأكاديمي بالالتزام بمستوى عال من المعايير العلمية لتحقيق الجودة المطلوبة التي تساهم في الفاعلية الإنتاجية في البلاد.
إمكانية غرس الأمانة العلمية في نفس الباحث.
للباحث حقوق وضمانات في مقابل مسئوليته الأخلاقية.
لا تستوعب القواعد العامة المنظمة للمؤسسة أخلاقيات البحث العلمي، إذ إن الأخلاق أعظم من الأحكام في مجال الفكر والبحث العلمي.
تكتمل فائدة البحوث العلمية بتوفير أدوات للنشر (مؤتمرات، إعلام ...إلخ).

ثانيا: التوصيات:


ضرورة تنمية الصفات الخلقية في الباحث بجانب الصفات العلمية والأكاديمية.
أن يكون البحث جزءا من حل مشكلة وليس جزءا من المشكلة.
وضع لائحة سلوك موحدة للبحث العلمي في الجامعات والمراكز البحثية.
إيجاد هيئة (مجلس) مهنية تتولى تمثيل الباحثين وحل مشاكلهم البحثية.
، ، ، والله المستعان ، ، ،

[(*)] الأخلاقيات لأي مهنة هي مجموعة من المعايير السلوكية التي يجب أن يلتزم بها صاحب المهنة، وتعرف الأخلاقيات Ethics بــــ (مصطلح يجدد المبادئ والقيم وكذلك الواجبات والالتزامات التي ينبغي أن يلتزم بها صاحب المهنة).

د. عليّ حمود عليّ، أخلاقيات مهنة التعليم الجامعي، ورقة علمية، جامعة الخرطوم.

[1] د. إبراهيم عبد الرحمن، البحث العلمي أصوله ومناهجه، 1431 ه / 2009 م، ص3 وما بعدها.

[2] قاسم عثمان النور "الكتابة والمكتبة في الحضارة الإسلامية منظور تاريخي"، رسالة دكتوراه غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الخرطوم، 1994 م، ص 185.

[3] د. مسعد عبد الرحمن زيدان، مناهج البحث العلمي في العلوم القانونية، دار الكتب القانونية، مصر، 2007 م، ص 82.

[4] يوسف القرضاوي، الرسول والعلم، دار الصحوة، دار العدالة للطباعة والنشر، 1984، ص 62.

[5] سورة المنافقون، الآية 8.

[6] هناك درجة من القبول على مهنية البحث العلمي على الصعيد الدولي، حيث استخدمت ديباجة توصية هيئة اليونسكو هذا التعبير في توصياتها عام 1974 م.

[7] د. مسعد عبد الرحمن زيدان، مرجع سابق، ص 98.

[8] د. حميد بن خليل الشاربجي، الإشكالات والصعوبات التي تواجه البحوث الجنائية وسبل التغلب عليها، أعمال الندوة العلمية "استخدام البحث العلمي في مجال الجريمة" أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، ط 1، الرياض، 1422 ه / 2001 م، ص 40.


إرسال تعليق

0 تعليقات