مقدمة

منذ فترة ليست بالبعيدة أوضح أحد الاقتصاديين أن من سيقرر مستوى الضرائب في ظل هذا العالم المتغير، وفي ظل هذه التطورات المتسارعة لن تكون الحكومات، ولا حتى السياسيين المنتخبين ديمقراطياً، بل سيصبح القائمون على أمر تدفقات رأس المال والمالكين للمشروعات الاستثمارية الضخمة وقادة صناديق الاستثمار هم من يقررون مقدار المبالغ التي يريدون دفعها من الضرائب، ومتى يدفعونها؟ وإن كانت تلك المقولة تضحي الآن شبه حقيقة مؤكدة فعلينا أن نتساءل .. ؟
ماذا سيكون موقف الدول والحكومات في ظل ظاهرة تذايد نفقاتها العامة، ونضوب الأموال، وقلة الإيرادات، والعجز المزمن في ميزانياتها بفعل سياسة التخفيضات والحوافز والإعفاءات الضريبية التي تقدمها الدول لقادة صناديق الاستثمار ولأصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين، وفي ظل الضغوط التي تمارسها أسواق المال ويمارسها المستثمرون على الحكومات، وخاصة عندما تظل الدولة هي المؤسسة الوحيدة التي يلجأ إليها الأفراد للمطالبة بتحقيق الأمن والعدالة وتحقيق طموحات مواطنيها ؟
كما يتساءل الكثير من الباحثين: لماذا يرفض الكثير من الأغنياء دفع الضرائب رغم حاجة الدولة الماسة إليها لتمويل نفقاتها العامة ؟
أليس لنا أن نتعجب ... ! إن هؤلاء المواطنين الأغنياء ومالكي الثروات هم أنفسهم الذين ينفقون أموالاً كثيرة في زوايا أشهر المقاهي العالمية، وهم الذين يدفعون أثماناً غالية في أفخر المطاعم لمأكولاتهم، وهم الذين يحملون نقودهم معهم إلى أماكن أجازاتهم خارج بلادهم في جزر مايوركا والمالديف وهاواي، هؤلاء المواطنون المبذرون الذين يسارعون إلى محفظة نقودهم أو بطاقة ائتمانهم للإسراف ببذخ، نراهم وقد أمسكوا أيديهم وأبدوا شحاً حين تطلب منهم الدولة أن يقوموا بسداد الضرائب المستحقة عليهم، أليس لنا أن نتعجب ونتساءل ونمعن التفكير، لماذا يضن هذا الشعب المحب للإنفاق على وزير ماليته بالضرائب التي يحتاجها في تمويل نفقات الدولة  .
إن فكرة الضريبة وما تتضمنه من معان متعددة وما تحمله من أطروحات تدور بين فكرة الجباية وفكرة التضامن الاجتماعي وما يحدث من تغييرات وتطورات وصراعات اقتصادية ومالية واجتماعية تلك التطورات والصراعات التي دفعت أحد السياسين الأمريكيين إلى القول: "عندما كنت صغيراً تمنيت أن أكون "رئيساً" أو " بابا " ولكني الآن أتمنى أن أكون سوق مال لأنه سيكون بمقدوري تهديد من أشاء"
إن المتأمل لذلك سوف يتوقف كثيراً ويعاود التفكير بل ويعيد النظر في الكثير من الأمور والنظريات المسلم بها وأهمها نظرية فرض الضريبة وما توارثناه عن آبائنا الاقتصاديين والقانونيين أصحاب الفكر المثالي الحديث وكذلك أصحاب الفكر المالي والاقتصادي التقليدي، بأن الضريبة مبلغ من المال يجبى جبراً.
وهل حقاً أن الفرد ليس حراً في دفع الضريبة من عدمه وليس حراً في تحديد مقدار الضريبة التي يدفعها ولا متى يدفعها، وأن كل ما تحاول الدول والحكومات فعله هو تغيير المنظور بعيداً عن النهج المعتاد وهو نهج العصا (Stick ) (ردع التهرب من دفع الضرائب) إلى نهج الجزرة (Carrot) وهو التشجيع الايجابي للامتثال الضريبي.
إن الهدف من هذه الورقة البحثية هو لفت الانتباه إلى أهمية دور الدولة الاقتصادي وضرورة البحث عن أسس أخرى يتم تأسيس فرض الضريبة استنادا إليها في ظل هذا العالم المتغير أسس تستأصل ضغوط أسواق المال على الحكومات و تنقل فكرة الضريبة من فكرة الجباية إلى فكرة المواطنة، أسس تبرر الاقتطاع الضريبي من جانب الدولة وفي نفس الوقت تقنع دافع الضريبة بأهميتها، أسس تصحح الفكرة المسيطرة على أذهان الغالبية من أن الضريبة مبلغ من المال يستأدى جبراً بقوة القانون، وذلك لمواجهة ما يحدث من تطورات اقتصادية واجتماعية وسياسية ومالية على المستوى المحلى والدولي وذلك لضمان حدا أدنى من الإيرادات العامة تكفل للدولة القيام بمهامها المتعددة.

وسوف نقوم بعرض هذا الموضوع على النحو التالي:

أولاً:- ضريبة البورصة ودور الدولة الاقتصادي.
ثانية:- تأجيل ضريبة البورصة بين الغاية من التشريع ومعوقات التنفيذ.

المبحث الأول

ضريبة البورصة ودور الدولة الاقتصادي

إن أحد أهم خصائص النظام الرأسمالي التي تأخذ به معظم دول العالم هي الدعوة لان تكون السيادة دائماً للأسواق ومعاداة تدخل الدولة في الاقتصاد والبحث عن أفضل السبل لتقليص دور الدولة الاقتصادي، وفي ظل هذا النظام فالكل يعظم منفعته الخاصة ويبحث عن أقصي ربح ممكن دون النظر إلى مصلحة المجتمع، والكل يزمن بمبدأ (دعه يعمل دعه يمر) Laisser faire, Laisser Passer
وقد أدى تطور النظام الرأسمالي إلى تكوين العديد من الاحتكارات جعلت السوق العالمية ملكية خاصة لحفنة من البشر وقامت الشركات عابرة القومية بنقل الملكية من البلاد الفقيرة إلى البلاد الأشد غنى وأضحى الاستثمار الخاص الأجنبي والغربي في البلاد النامية ليس سوى استيلاء الشركات متعددة الجنسيات على موارد تلك الدول ولكن بشكل قانوني.
وهوا ما حدا بالبعض ) إلى القول "أن من يسيطر علي العالم اقتصادياً من الأفراد والشركات لا يرى فائدة في الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي الذي يخلق ثروة حقيقية ويمنح العامل أساسا ماديا للحياة.
إن الاستثمار الحقيقي يستوجب احترام حقوق العامل وتوفير أجر محترم له ولكن هذا لا يضمن للأثرياء أرباح 100 % كما يريدون ... وإن النظام القائم حالياً يمتص دماء البشرية ويسلب من العامل توفيراته الضئيلة التي يمكن أن تضمن له مستقبله .. ويرى أن أصحاب رؤوس الأموال تحوم كالكواسر في الجو مرة تغري المواطن باستثمار توفيراته الضئيلة في البورصة وعندما يفقد كل ما يملكه فيها تدفعه للحصول على قرض بدون ضمانات ... في المرة الأولى تم سرقة ما يملكه المواطن وفي المرة الثانية يتم إقراضه من ماله المسروق وتجبى منه فائدة عالية حتى يعجز عن السداد فيصادر منه بيته ... إنها مقامرة علي حساب الإنسان البسيط وهذه هي حقيقة الأدوار التي تلعبها أسواق المال العالمية.
ومنذ فترة طويلة أمست معظم السياسات الاقتصادية والاجتماعية في معظم دول العالم لأهم لها سوى التركيز والبحث عن أفضل السبل لتقليص دور الدولة الاقتصادي وذلك عن طريق سحب الأدوات التي تقوم من خلالها الدولة بتوجيه اقتصادها الوطني وتنفيذ سياسات وتوصيات المؤسسات المالية والاقتصادية العالمية التي تخدم مصالح الأثرياء والشركات متعددة الجنسيات وأصبحت السياسات التي تنتهجها معظم دول العالم في الوقت الراهن مقيدة لها وذلك بسبب الحرية الواسعة الممنوحة للنشاط الاقتصادي والأسواق العالمية حتى تحولت الدولة في العصر الحديث من متبوع إلى تابع لا هم لها سوى منح المشاريع الأجنبية والاستثمار الأجنبي كل شيء في مقابل لا شيء وأصبحت الدولة ترضخ لمتطلبات جذب الاستثمار الأجنبي وذلك من خلال العديد من التضحيات المؤلمة مثل تقديم البنية الأساسية المجانية والطاقة المدعومة وأجور العمال المنخفضة والمتدنية والإعفاءات الضريبية والجمركية وغيرها من التنازلات كل ذلك بسبب الاعتقاد أن اقتصاد السوق الحر والانفتاح الاقتصادي خير طريق لتحقيق الرفاهية للشعوب وتحقيق النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية المستدامة إلا أن واقع الحال يشهد أن هذه الدول كانت تركض وراء سراب لا طائل منه ووهم لا خير فيه وكان حصادها من تلك السياسات أن ظهرت الاحتكارات الضخمة في شتى المجالات والقطاعات وظهرت فئة تملك كل شيء وفئة أخرى لا تملك أي شيء بل إنها فئة مهددة بالاستغناء عنها.
كما أشار البعض  إلى أن تقليص دور الدولة الاقتصادي يعني فعلا محابة الأغنياء على حساب الفقراء وهنا لا عجب أن ينادي هؤلاء الأثرياء الذين يقومون بتهريب أموالهم وثرواتهم إلى خارج البلاد إلى ما يسمى بالجنات الضريبية ( tax heaven) بضرورة" ترشيق الدولة " مثلهم في ذلك مثل لصوص المصارف الذين يتمنون حل أجهزة الشرطة.
وقد ترتب على حصر دور الدولة في مجرد حراسة الأنظمة أن أدى ذلك إلى تفاقم اللا مساواه في توزيع الدخول والثروات وانخفاض مستوى المعيشة وتدهورها وازدياد معدلات البطالة وتدني مستوي الأجور وتدهور مستوي الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة لمواطنيها والتعدي علي أموال ومكتسبات الأفراد وصناديق التقاعد وازدياد الفقر في المجتمعات وسيطرة أصحاب الثروات ورؤوس الأموال علي مراكز الحكم والتحكم في مقاليد الأمور والسيطرة علي العديد من السلطات في الدولة وتحريكها بما يخدم مصالحهم وتعظيم أرباحهم وثرواتهم.
وهكذا يبدوا لنا أن الشعارات الجذابة التي ترفعها الحكومات عن العدالة الاجتماعية التي يمكن تحقيقها عن طريق الضرائب، والتي تتضمنها الدساتير و تتغنى بها وسائل الإعلام و يرددها السياسيين في كل المحافل المحلية والدولية تجعلنا نعيد النظر ونتوقف كثيرا أمام السياسات المالية والاقتصادية التي تستهدف إعادة توزيع الدخول ودور الدولة الاقتصادي كمراقب وضامن ومتدخل أحياناً من أجل ضبط الأسواق وحماية الفئات الاجتماعية الضعيفة.
وضريبياً وفي ظل معظم النظم الاقتصادية المعاصرة فإن فرض الضريبة كان ولا زال يمثل بعداً وطنيا يعبر عن المواطنة الحقيقية، إذ أن مبررات فرضها تستند في كل النظم الاقتصادية في العالم المعاصر على نظريتين هما: نظرية العقد المالي التي أسست فرض الضريبة على عدة أوجه للتعاقد بين المواطن والسلطة، مرة بصورة عقد بيع خدمات يدفع مقابلها المواطن، وأخرى بصورة عقد شركة بين السلطة والمواطنين يساهم كل مواطن فيها بحصته في إنشاء واستمرار الشركة، وثالثة في عقد تأمين ضد المخاطر يدفع المواطن مقابل التأمين الذي تقدمه له الدولة و نظرية التضامن الاجتماعي التي تعنى التزام مواطني الدولة بأداء الضريبة وفقاً لرابطتهم السياسية، الجنسية، ورابطتهم الاجتماعية والاقتصادية بالمجتمع الذي يطالبهم بأداء الضريبة وأن الضريبة مساهمة تطلبها الدولة من المواطنين بمقتضى واجبهم العام من أجل ضمان الحياة الاجتماعية بغض النظر عن المنافع الخاصة للخدمات العامة التي تقدم إلى المواطنين وكلا النظريتان تطرحان مفهوماً يحمل معنى الترابط بين الفرد والدولة.
ولكن المتأمل في قرار تأجيل فرض ضريبة البورصة يجعلنا نعيد النظر ونتساءل: هل لم يعد عنصر الإجبار والإكراه أهم الخصائص التي تتميز بها الضرائب كتنظيم مالي ؟، ولماذا لم تعد خاصية الارتباط بالسلطة ووجودها أحد خصائص فرض الضريبة ؟ فالضريبة استقرت في أذهان دافعيها بأنها جبرية ولا مجال لعدم دفعها إلا بالخروج عن الإطار القانوني لفرضها وهو (التهرب) منها.
أن كل الأفكار والنظريات التي توارثناها عن الاقتصاديين القدامى والمحدثين وكل ما تعلمناه من أدب المالية العامة لا يبرر لنا لماذا يدفع الضريبة العامل والسائق والخادم وصاحب المقهى والحلاق ولا يدفعها المضارب الرابح في البورصة و الشركات التي تتداول مليارات الجنيهات يومياً وتحصل على ملايين الجنيهات من الأرباح.
كما يمكن القول إنه سيظل الهدف المالي لأي سياسة ضريبية هو في الغالب الأعم هو الهدف الرئيس لها على الرغم من أن كل أدبيات المالية العامة التي توارثناها وبخاصة في الفكر الحديث تعدد أغراض الضريبة وأدورها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إلا أن هذه الأغراض والأهداف وبخاصة الهدف الاجتماعي للضريبة مازال يلاقى صعوبة كبيرة عند محاولة تطبيقه على أرض الواقع.
ويمكن القول إنه من الأهمية بمكان أن نبحث عن أفكار جديدة لتأسيس فكرة فرض الضريبة فكرة تجعل من أداء الضريبة واجب وطني قبل أن تكون غرضاً تمويلياً أو إكراها ماديا على الاستقطاع من قبل السلطات المالية، فكرة يمكن قبولها للمساهمة في التأسيس لمشروعية الاقتطاع الضريبي كما توجد الأساس القانوني لالتزام الأفراد بأداء الضريبة. 

المبحث الثاني

تأجيل ضريبة البورصة بين الغاية من التشريع ومعوقات التنفيذ

تصدر التشريعات عموماً لتعبر عن حاجات المجتمع وظروفه الخاصة، ويعد التشريع الضريبي في أي دولة من دول العالم، مظهراً من مظاهر سيادتها التي تباشرها على إقليمها، كما تباشرها على الأشخاص التابعين لها سواء كانوا أشخاص طبيعيين أم أشخاص اعتباريين، وسواء كانت التبعية سياسية أو تبعية اقتصادية.
كما تعد عملية إعداد و إقرار التشريعات الضريبية تحت ضغط جماعات المصالح وأصحاب النفوذ ليست من وساوس الشيطان بل هي واقع ملموس، كما إنها ليست بالحديثة في عالمنا المعاصر.
ففي بريطانيا وفي عام 1910 عندما تضمنت ميزانية عام 1910 إجراءات ضريبية مصاحبة لتشريعات الرفاهة، ثارت نزاعات وضغوط سياسيه لم يسبق لها مثيل، بل وأدى ذلك إلى إجراء انتخابات في نفس العام، بل و أدى دلك أيضاً إلى أزمة دستورية خطيرة، مما دفع حكومة حزب الأحرار إلى التهديد بمنح لقب نبيل لعدد من الأشخاص يكفي للموافقة على تشريعات الضرائب اللازمة.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية وعندما دعا جورج هنري إلى تطبيق الضريبة الواحدة على الإيراد غير المكتسب في قيمة الأراضي، والذي لا ينتج من جهد المالك، بل يأتي نتيجة التقدم العام للسكان والصناعة، وجد معارضة شرسة من عدد كبير من ملاك الأراضي والأغنياء.
وفي مصر وبمجرد أن صرح وزير المالية بأنه يتم مناقشة فرض ضريبة بنسبة 10 % على توزيعات الأرباح للشركات المدرجة في البورصة، قامت ثورة عارمة بين المتعاملين في البورصة وهدد المستثمرون بسحب أموالهم من البورصة، كما نظم عدد من مستثمري البورصة احتجاجاً أمام مجلس الوزراء علي قرار وزير
المالية آنذاك د/ سمير رضوان بفرض ضريبة علي الأرباح الرأسمالية وتوزيعات شركات الأموال والأشخاص والدمج والاستحواذ وإعادة تقييم الأصول وهدد المحتجون بسحب استثماراتهم من سوق الأوراق المالية المصرية.
وبتاريخ 30/ 6/ 2014 تم صدور القرار بقانون رقم 53 لسنة 2014 والذي كان يهدف إلى محاولة تحقيق جزء من العدالة الاجتماعية التي تعد أحد مطالب ثورة يناير عن طريق الضريبة (العدالة الضريبية).
فكما نعلم جميعاً أن المستثمر في الأنشطة والصناعات المختلفة يخضع للضريبة على ما يحققه من أرباح في حين أن مستثمر البورصة لا يخضع لأي ضريبة علي أرباح التداول بالرغم من استفادة الاقتصاد ومن ثم المجتمع من المستثمر الأول بصفة مباشرة في مجالات متعددة منها زيادة التشغيل والحد من البطالة وزيادة الناتج, المحلي وزيادة الإيرادات العامة، وبالتالي فإن فلسفة فرض ضريبة علي أرباح البورصة تعد مقبولة ولو من الناحية النظرية من المجتمع لمحاولة إيجاد عدالة ضريبية ومن ثم عدالة اجتماعية.
و ما أن قامت الحكومة بفرض ضريبة علي أرباح البورصة بمقتضى القرار بقانون رقم 53 لسنة 2014 إلا وتوالت الانتقادات وتعددت التصريحات المعارضة لفرضها وواصلت البورصة خسائرها وخرجت جزء من رؤوس الأموال منها، وتواصلت الضغوط من أجل إلغاء الضريبة بهدف حماية البورصة من الانهيار ووقف نزيف الخسائر، فما كان من الحكومة إلا أن قامت بتأجيل فرض الضريبة لمدة عامين وذلك تحت ضغط رجال الأعمال والمستثمرين ورضوخاً لهم.
ويمكن القول النتائج المترتبة على مثل هذه القرارات ومثل هذه السياسات تثير القلق وتؤكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك أنه غالباً ما تركع السياسة، وتتراجع الحكومات في خططها وبرامجها بل وتشريعاتها التي هي مظهر من مظاهر سيادتها أمام تهديدات أصحاب رؤوس الأموال والمشروعات العملاقة، بل يرى البعض أن خسارة الدول لبعض من سلطاتها في هذا المجال هو أمر مستحسن وأن لكل سياسة اقتصادية الآن حكام ومحلفين وأن أسواق المال تمثل الآن الحكام والمحلفين لكل سياسة اقتصادية على مستوى العالم.
وهنا لا مجال أمام السياسات الارتجالية و الحكومات الراضخة إلا أن تتغنى عبر وسائل إعلامها مطالبة أصحاب الدخول المنخفضة والموظفين والعمال الذين غالباً ما تستقطع ضريبة كسب العمل من أجورهم، بضرورة "شد الأحزمة على البطون من أجل تعزيز النمو الاقتصادي انتظاراً للخير القادم" ولكن إلى متى سينظر هؤلاء تلك الوعود الكاذبة ؟
بل كان يجب على صانع السياسة ألا يلتفت إلى تلك الآراء القائلة بأن ضرائب البورصة تؤدى إلى تنفير رأس المال وتحفيزه على الهروب إلى الخارج فما هذه الآراء إلا ذرائع يراد منها تحويل أنظارنا عن جشع الأغنياء واستفحال وسطوة رأس المال المحلى والعالمي.
فالمستثمر الجاد لا يهمه الإعفاءات الضريبية بقدر ما يهمه من شفافية النظام الضريبي واعتداله والبعد عن التعقيد والازدواجية ولا يعد الإعفاء الضريبي حالياً عاملاً أساسياً لتشجيع الاستثمار فالإعفاءات الضريبية تأتى ضمن المجموعة الأخيرة المشجعة والمحفزة للاستثمار في البلدان العربية.
وإذا كان البعض يرى أن ضريبة الدخل يجب أن تظل بسيطة وقواعدها سارية لمدة طويلة، إلا إنه يمكن القول أن تغيير القوانين واللوائح الضريبية المتتالية ما هي إلا تعبيراً عن فقد كل اتصال ما بين واضعي السياسة الضريبية والمجتمع أو البيئة التي سيطبق فيها القانون.
وفي هذا الإطار فإننا لا نطالب من خلال فرض ضريبة البورصة تجريد الأغنياء من أموالهم ومنحها للفقراء أو مصادرة دخولهم ولم ننادى أبدا بفرض "ضريبة الحسد" (tax envy) على الأغنياء ومالكي الثروات، إننا نستطيع أن نقرر وبحق " أن الضريبة العادلة هي الضريبة التي لم تفرض بعد " ولكننا نطالب بأن تلعب الضرائب دوراً أكبر في إعادة توزيع الدخول وألا يحابي صانع السياسة مالكي الثروات على حساب فئات أخرى من المجتمع وبخاصة فئة العاملين بأجر وارتفاع نسبة عبئهم الضريبي مقارنة بارتفاع دخول أصحاب المشاريع والثروة وانخفاض نسبة عبئهم الضريبي.
كما أن الترديد المستمر من الخوف من أن يدفع النظام الضريبي أصحاب المشاريع والثروة إلى الهروب خارج البلاد يجعل الحكومات الهزيلة مجبرة على مواصلة خفض الضرائب أو إلغائها على أصحاب الثروات والمشروعات الاستثمارية في ظل أسوق المال المحررة من القيود الحكومية، ويبنى على ذلك نتائج خطيرة أهمها: استمرار التوزيع غير العادل للأعباء الضريبية بين المواطنين، و ارتفاع نسبة التهرب الضريبي ونمو ظاهرة الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية، وزيادة العبء الضريبي على فئات ضعيفة في المجتمع فعندما نعفي أرباح المليارات المتداولة في البورصة من الضريبة، ثم يقوم بدفع الضريبة موظف أو سائق سيارة أجرة أو نقل أو صاحب كشك أو محل بقالة ..... أليس ذلك مؤداه تركيز الأعباء المالية على كاهل الشرائح الاجتماعية التي تقع في أدنى السلم الاجتماعي، وذلك هو أسهل الحلول من وجهة نظر صانعي السياسات المالية والاقتصادية في معظم دول العالم، ولكننا في هذا الإطار نذكر الجميع بمقولة "ما ينهارد ميجيل" " أن المجتمع الذي يفرط في تحميل سفينة عنصر العمل أعباء لا قدرة لها على تحملها يجب أن يأخذ في الحسبان غرق هذه السفينة ".
ولعلاج ذلك وبدلاً من الرضوخ لضغوط أسواق المال ورجال الأعمال والمستثمرين كان لابد من استئصال هذه الضغوط التي يمارسها رأس المال على الحكومات المستأنسة، وذلك بفرض ضريبة ولو بنسبة بسيطة على كل المعاملات بالعملات الأجنبية حسب نصيحة الاقتصادي الأمريكي " توبين '' الذي كان يرى ضرورة الحد من نشاط أسواق النقد الدولية، ويرى إنه رغم ضآلة النسبة المفروضة بها هذه الضريبة إلا أن تأثيرها سيكون عظيما وخاصة بالنسبة للاقتصاد الحقيقي (القطاعات الإنتاجية ) حيث ستتراجع عمليات المضاربة وتستطيع البنوك المركزية التحكم في مستوى الفائدة في السوق الوطنية بحرية تامة ولن يكون هناك استغلال لاختلاف مستويات أسعار الفائدة السائدة في الأسواق والبلدان المختلفة وذلك بالإضافة إلي المردود المالي الذي ستحصل عليه الحكومات من جراء فرض هذه الضريبة.
ويرى هانذ هلموت كوتس hans helmut kotz الاقتصادي الألماني أن ضريبة تموبين لا غبار عليها إطلاقا من الناحية النظرية ولكن فإن المعنيين بهذه الضريبة سوف يعارضونها نظراً للتهديد المستمر لرأس المال بنقل عملياته إلى فروعه الأخرى المنتشرة في الواحات الضريبية (Tax Heaven) في حال تطبيق مثل هذه الضريبة ووصل الأمر إلى أن أحد أصحاب رؤوس المال الأمريكيين قال مهدداً ( أنه في حالة تدخل الدولة في عملياتنا فإننا سننقل مراكزنا إلى سفن ترسوا وسط المحيط).
وهكذا يبدوا لنا بما لا يدع مجالا للشك مدى سطوة رأس المال وتقلص سلطات الدولة وعجز الساسة وصناع القرار حيال ذلك، وهكذا تبدوا الدول التي لا تستطيع مواجهة مثل هذه التحديات في نظر مواطنيها مؤسسة فاشلة لا خير يرتجى من ورائها.
وإذا كانت الدول والحكومات لم تعد قادرة الآن على كبح جماح وترويض القطاع المالي الذي استفحلت وحشيته والبقاء مكتوفة الأيدي حيال مواجهة سطوته فما عليها سوى تقبل المزيد من عجز الموازنة وانتشار المزيد من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية السلبية والتي يعد أهمها عدم العدالة في توزيع العبء المالي بين المواطنين.

أهم المراجع

(1) بول هيرست، جرهام طومبسون، الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، الناشر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 273، سنة،2001.
(2) د/ حازم الببلاوي - الازمة المالية العالمية,- محاوله للفهم – مقال. 
منشور بجريدة المصري اليوم - العدد الصادر. بتاريخ 4/ 10/ 2008 والمقال منشور أيضاً على الموقع : WWW.midadulqalam.info
(3) نورمان فان شربنيرغ، فرص العولمة، الأقوياء سيزدادون قوة، ترجمة د/ حسين عمران، مكتبة العبيكان، سنة 2005.
(4) هانس بيترمارتين وهارلد شومان، فخ العولمة، الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية، ترجمة د/ عدنان عباس على، عالم المعرفة.، العدد 238 سنة 1998.
(5) هورست أفهيلد، اقتصاد يغدق فقرا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، سنة 2007، ترجمة/ عدنان عباس على.

إرسال تعليق

0 تعليقات